icon

البروفيسور مهمت تونر

العلوم والتكنولوجيا الحيوية والطبية

مولود :

1958

الجنسیة:

تركيا

الأعمال:

تطوير أنظمة النانو/ميكروفلويديك ذات التطبيقات السريرية: فصل الخلايا النادرة

السيرة الذاتية‌

الحياة في مسار الخلايا النادرة
في كل مختبر علمي، هناك نقطة لا تكفي فيها العين البشرية وحدها، وللكشف عن الأسرار الخفية يجب النظر بدقة وعمق أكبر. في تلك النقطة، يوجد باحثون، قادرون بشغفهم ودقتهم على رؤية ما تخفيه عيون الآخرين. أحد هؤلاء الباحثين هو مهمت تونر، والآن سنتناول قصة حياته؛ رحلته بدأت من فضولته المبكرة في إسطنبول ووصلت به إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ومستشفى ماساتشوستس العام. نشأة حبه للعلم خلال سنوات دراسته في الهندسة الميكانيكية، حينما كانت قضاياه تتجاوز عالم الأدوات والمسننات، وكانت تشغل ذهنه. بعد ذلك، تعرّف على أساتذة جدد لديهم نظرة مختلفة نحو طرح الأسئلة وحل المشكلات، مما شكل نقطة تحول في حياته ومهد له طريق البحوث الدقيقة المجهرية والهندسة الطبية.
بذرة الفضول
ولد مهمت تونر عام 1958 في حي صغير من إسطنبول. لم تكن سنوات طفولته مرتبطة كثيرا بالاهتمام بالدراسة، بل كان قلبه متعلقا أكثر بكرة القدم والتنس، وكان يستغل كل فرصة لممارسة التزلج، رياضة لم تكن متاحة بسهولة له. بالرغم من أن شغفه بالرياضة كان أقوى من الكتاب والدراسة، إلا أن بذرة التعلم والمسائل العلمية قد غُرست في بيته. وفقا له قاله، كانت عائلته دائما مولعة بالتعلم، وكان لوالديه أثر كبير في تحفيزه على الدراسة والمعرفة. في تلك الأيام في تركيا، لم تكن هناك جامعات خاصة، وكانت التعليمات العليا مجانية، ما منح تونر فرصة الحصول على تعليم مجاني وعالي الجودة في إسطنبول. هذه البنية الأسرية والاجتماعية كانت الأساس في التغيير الذي قاده لاحقا من عالم الرياضة إلى عالم العلم.
البحث عن طريق نحو الطب
على الرغم من رغبة مهمت تونر في أن يصبح جراحا أو طبيبا، لم يحصل على الدرجات اللازمة في نظام القبول الجامعي المركزي في تركيا، فسجل في قسم الهندسة الميكانيكية في جامعة إسطنبول التقنية. هناك التقى بالبروفيسور إستر1 والبروفيسور رمضان كيليتش2، اللذين عمقا نظرته للعلم. عرفاه على فكرة أن العلم يعني السير إلى أماكن لم يسبق لأحد أن زارها من قبل، وعلماه متعة الاكتشاف. تونر الذي كان قبل الجامعة يعاني من ضعف الاهتمام بالدراسة، أصبح في تلك السنوات عاشقا حقيقيا للدراسة. وحسبما قال، تحول من طالب عادي إلى واحد من أفضل الطلاب في الجامعة، وكانت تلك الحماسة الجديدة هي التي مهدت له طريق الهجرة إلى الولايات المتحدة. تقدم للعديد من الجامعات وفي النهاية التحق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا  (MIT)، حيث كانت هندسة الطب الحيوي قد بدأت للتو. كانت هذه التخصص بالنسبة له فرصة مثالية، إذ أنه بدمج الهندسة مع المجال الصحي، كان بإمكانه الاقتراب من حلمه الأول في لعب دور في مجال الطب.
عندما وصل مهمت تونر إلى MIT، كان لا يزال مهندسا ميكانيكيا. في أيامه الأولى، تحدث مع العديد من الأساتذة لتشكيل مستقبله. في ذلك الوقت، لم يكن تخصص الهندسة الطبية الحيوية يحظى بجدية كبيرة. رغم البرود الذي صنعته هذه النظرة، اختار تونر طريقه. أراد أن يفعل شيئا جديدا وله تأثير مباشر على الطب. تحدث مع أساتذة متعددين، تعلم أكثر، وفي النهاية قرر متابعة مسار الهندسة الطبية الحيوية. كان حبه للصحة هو الذي جعله ثابتا أمام كل الشكوك والإحباطات وجعله متأكدا من اختياره.
أيادي الهداية
بدأ تونر دراسته للدكتوراه تحت إشراف الأستاذ إرنست كرافاهو3، أحد أوائل العلماء في مجال علم الأحياء البارد4 في MIT  . كان موضوع أطروحته حول نظرية تكوّن الجليد داخل الخلايا؛ بحث جعله لأول مرة يُذكر اسمه في المجتمع العلمي، ولاحقا كان الأساس لأعماله في مجال حماية الأحياء. استمر تعاونه مع كرافاهو لخمس سنوات، هذه السنوات لم تبن له أساسا علميا قويا فحسب، بل قادته إلى صداقة عميقة استمرت حتى وفاة أستاذه. ربطت هذه الأبحاث نظرته إلى تطبيقات الهندسة في الطب، لا سيما في علم الديناميكا الحرارية. بعد أساتذته في مرحلة البكالوريوس، كان كرافاهو هو الشخص الثالث الذي غير مسار حياته. بعد ذلك، قادته التعاونات مع البروفيسور مارتن يارموش5 والبروفيسور رونالد تامكينز6 إلى مستشفى ماساتشوستس العام وكلية الطب في جامعة هارفارد.
منذ أوائل الألفينات، بدأ تركيز تونر يتجه نحو تقنية تدفق السوائل الدقيقة (الميكروفلويديك)، وهي تقنية تحاكي حركة الجزيئات في قنوات مجهرية. استخدمت هذه التقنية لدراسة الخلايا النادرة مثل الخلايا الجذعية والجنينية، وخاصة خلايا السرطان المتداولة في الدم. أدرك أن لهذا المجال مستقبلا مصيريا، لأنه بفصل الخلايا النادرة، يمكن مراقبة وتشخيص أمراض مثل السرطان في وقت مبكر واختيار الدواء المناسب للمريض.
الأفكار لا تعيش وحدها
رحلة الفكرة لتحولها إلى منتج هي رحلة معقدة. يبدأ كل شيء بفكرة، ثم يجب مراجعتها من وجهات نظر مختلفة حتى تصل إلى مرحلة الابتكار؛ حيث يتضح الدور الاجتماعي لها وإمكانية تحويلها إلى منتج. بعد ذلك تبدأ الصعوبة الحقيقية، وهي الانتقال من الاختراع إلى الإنتاج الكمي. يجب أن يعمل المنتج بجودة عالية دائما، ويجتاز الاختبارات السريرية واللوائح التنظيمية، ويصمد أمام المنافسة، ويُنتج على نطاق عالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه العملية مكلفة وتستغرق أكثر من عقد من الزمن.
تونر، الذي لم يكن يهتم كثيرا بتسجيل براءات الاختراع في سنواته الأولى، أدرك عبر تحذير أستاذه رافائيل لي أن أي فكرة لا تتحول إلى منتج حقيقي بدون دعم قانوني. اليوم، لديه أكثر من مئة براءة اختراع، معظمها في مجال تقنية تدفق السوائل الدقيقة. بعض هذه البراءات مخصصة لصناعة شرائح ميكروفلويديك لتحديد وتحليل الخلايا النادرة، والتي تُستخدم الآن في مجالات واسعة منها صحة الدماغ، تجديد الأنسجة، والمجالات العصبية-والأوعية.
انعكاس الجهود
بعد سنوات من الجهد والبحث، حصل مهمت تونر على عدة جوائز وتكريمات علمية. من بين قائمة طويلة من جوائزه، يمكن الإشارة إلى جائزة المجموعة العلمية AACR  عام 2010. منحت هذه الجائزة من قبل مجموعة أبحاث السرطان7 والقفص الصدري في مركز سرطان دانافاربر تقديرا لإظهار علاقة طفرات EGFR  بالاستجابة العلاجية للأدوية gefitinib و erlotinib، بالإضافة إلى اكتشاف آليتين جديدتين لمقاومة الدواء. بالإضافة إلى ذلك، في سنوات سابقة، صنفته مجلة Popular Mechanics ضمن الفائزين بجائزةBreakthrough Award.
في السنوات الأخيرة، تم إدراجه ضمن قائمة الفائزين بجائزة المصطفى(ص) للعلوم والتكنولوجيا لعام 2025، نظرا لتطويره أجهزة نانو/ميكروفلويديك بتطبيقات سريرية لفصل الخلايا النادرة.
بهذه الإنجازات، استطاع تونر أن يحدث نقطة تحول في الربط بين الهندسة والطب، وفتحت أبحاثه طريقا جديدا لتشخيص الأمراض وعلاجها.
مع مرور السنوات، يواصل تونر دربه البحثي، حيث يمكن لكل اكتشاف صغير أن يثير أسئلة أكبر. وبعد أكثر من أربعة عقود من النشاط العلمي والتدريس الجامعي، ركز جهوده على دعم الشباب، وتسجيل براءات الاختراع، وتوفير بيئة لتسويق الأفكار، ومناقشة القضايا الأخلاقية للتقنيات الجديدة. اهتماماته اليومية مثل الرياضة والفنون البصرية ودراسة تغير المناخ ما زالت مرتبطة بأبحاثه، وجزءا من مسيرته في الحدود الغامضة للطب الحيوي.
يؤمن تونر بأن الفشل والتحديات موجودة دائما، والمهم هو القدرة على تحليل الوضع، ووضع الاستراتيجيات، والتركيز على المستقبل بدلا من النظر إلى الماضي. يقول إن الفضول يجب أن يُعزز، ويجب التقليل من التنظيم والتعقيد الزائد، لمنح الشباب حرية العمل، حتى تتحقق التقدمات بسرعة أكبر مما كانت عليه في السابق.
 

التعريف بالأعمال

القنوات المصغرة، إنجازات عظيمة
رحلة خفية على الطريق السريع للحياة
الجسد هو نسيج منسوج من مليارات الخلايا؛ خلايا مرتبة كحبات منتظمة، واحدة تلو الأخرى حسب الإرادة. في هذا السياق، يسير كل شيء على ما يرام إلى أن تتأخر حبة واحدة، وهذه الحبة إذا لم تكتشف في الوقت المناسب، قد تفكك النسيج كله. تبدأ قصتنا من خلية واحدة، هي تلك الحبة المتأخرة. خلية صغيرة تخرج عن النظام، وتتجاهل قوانين الجسد في صمت. في البداية، قد تكون مجرد بقعة غير محسوسة في ركن ما، ولكن إذا لم تُكتشف هذه الخلية العصية في الوقت المناسب، فإن تكاثرها غير المنضبط وغير المتناسق مع الجسم يؤسس لما نسميه السرطان1 . هذه الخلية تتصرف بانتهازية ولا تكتفي بمنطقتها المحدودة. مع مرور الوقت، يركب بعضها تيار الدم ليبدأ رحلة تهدف إلى توسيع نطاقها؛ وهذه الظاهرة تعرف بالانبثاث (النقائل)2.
الدم هو الطريق السريع الذي يحمل ملايين الركاب. كريات الدم البيضاء والحمراء، الصفائح الدموية وغيرها، كلها مكونات هذا السائل الأحمر الذي لا يتوقف عن خدمة الحياة. في هذه الزحمة، تعتبر خلايا السرطان القليلة من المسافرين غير المرغوب فيهم، الذين يهربون من الكشف عن طريق الجهاز المناعي بخططهم الخبيثة. الكشف عن مثل هذه الخلايا بين هذه الحشود ليس بالأمر السهل؛ وهنا يظهر دور العلم.
مراسلو المستقبل في أعماق الدم
أهمية التعرف على خلايا السرطان المتداولة (CTCs)3 والتي توجد خصوصا في الدم، لا تقتصر على التشخيص المبكر للمرض فقط. هذه الخلايا المتجولة تتحدث عن المستقبل، عن مدى عدوانية المرض، احتمالية عودته، وطريقة استجابة الجسم للعلاج. هذه الميزة جعلتها أداة ثمينة لاتخاذ قرارات علاجية. على سبيل المثال، في مرضى سرطان البروستات المتقدم، يمكن للتحليل الجيني لهذه الخلايا التنبؤ بنوع العلاج الذي سيستجيب له المريض بشكل أفضل. أحد الجينات المناسبة للدراسة هو جين AR4. جين AR في الحالة الطبيعية يؤدي إلى إنتاج mRNA  يصنع في النهاية بروتين مستقبل الأندروجين في خلايا البروستات. هذا المستقبل هو بروتين داخل خلوي/نوي ينشط بعد ارتباطه بهرمونات مثل التستوستيرون ويعطي إشارة للخلايا بالتكاثر، لكن في حالة السرطان، الأمور تختلف. في بعض هذه الخلايا، يُقصّ mRNA  الناتج عن جين AR بشكل غير طبيعي وينتج نوعا متغيرا يدعى AR-V7 . هذه النسخة تصنع مستقبلا ينشط حتى بدون وجود التستوستيرون ويصدر أمر التكاثر بشكل مستمر. إذا تم التعرف على AR-V7 في الخلايا السرطانية المنفصلة من المريض، يمكن التنبؤ بأن المريض قد لا يستجيب لبعض العلاجات. المعلومات من هذه الاختبارات تساعد الأطباء على تخصيص العلاجات بناء على الخصائص الجينية لكل مريض بدقة أكبر، وتجنب إهدار الوقت والتكاليف.
التشخيص بثمن
في الظروف الحرجة، يجب على الأطباء تقييم حالة المريض بأقصى سرعة وأعلى دقة. كذلك يسعى الباحثون للكشف المستهدف عن هذه الخلايا السرطانية قبل أي انتشار. في حين أن الأدوات التقليدية لم تكن دائما كافية. من الطرق الشائعة كانت استخدام الأجسام المضادة5 ، والأجسام المضادة هي جزيئات تلتصق بمستقبلات خاصة على سطح الخلايا السرطانية وتوسمها. على هذا الأساس، صممت أنظمة مثل CellSearch والتي كانت لفترة طويلة تعتبر المعيار الذهبي6. في هذه الطريقة، تُربط الأجسام المضادة بجزيئات مغناطيسية دقيقة. إذا كانت هناك خلايا سرطانية في عينة الدم، تلتصق هذه الأجسام المضادة بمستقبلات محددة على هذه الخلايا وتضع عليها علامة. بهذه الطريقة، تصبح الخلايا المعنية ذات خاصية مغناطيسية. بعد ذلك تدخل العينة إلى جهاز به مجال مغناطيسي مضبوط في الجدار، يجذب الخلايا الموسومة مثل مغناطيس موجه. تُغسل الخلايا الدموية الأخرى وتزال. لكن هذه العملية تواجه مشاكل كثيرة، منها اختلاف مستقبلات الخلايا السرطانية، إذ قد تتغير الخلايا عند دخولها الدم فتقل أو تختفي مستقبلاتها. ونظرا لاعتماد هذه الأنظمة الكلية على وجود هذه المستقبلات، تبقى هذه الخلايا المتغيرة غير مرئية للنظام. حاولت طرق أخرى كالفلاتر الميكانيكية الاستفادة من اختلاف الحجم والصلابة، لكنها غالبا ما تعاني من انسداد الفلتر وإلحاق الضرر بالخلايا. الخلل المشترك لهذه الطرق أنها إما تعتمد بشكل مفرط على المعلومات البيولوجية أو تقوم بالعزل على حساب تلف بنية الخلايا. هذه العيوب فتحت الطريق لجيل جديد من الأدوات.
صيادو السرطان المحترفون
في عالم الطب الحيوي، ثورة عميقة تحدث. إذا كان التشخيص يعتمد سابقا على ملاحظة الأعراض أو أخذ عينات جراحية، فإن اليوم هناك أفق جديد يتشكل، يسمى "الخزعة السائلة7" الذي يحاول بدلا من القطع والأخذ، كشف أسرار الجسم عبر كمية بسيطة من الدم. هذه التكنولوجيا تصطاد الخلايا والجزيئات النادرة القادمة من الأورام، الأنسجة الملتهبة أو حتى الجهاز المناعي إلى مجرى الدم. في قلب هذه التطورات، حازت الرقائق الدقيقة المصغرة8 (الميكروفلوئيديك) على مكانة خاصة. هذه الرقائق أدوات صغيرة يمكنها تمرير سوائل مثل الدم عبر قنوات رفيعة بحجم شعرة، وتقوم بعزل وتحليل مكوناتها. من أمثلة تطبيق هذه التكنولوجيا تصميم مجموعة مهام تونر في أوائل الألفينيات. حيث صنعوا رقاقة باسم CTC-Chip التي أحدثت تحولا في الكشف عن الخلايا السرطانية المتجولة. مغطاة من الداخل بأجسام مضادة خاصة، تلتقط الرقاقة عند مرور الدم الخلايا التي تحمل مستقبلاتها، والتي هي غالبا خلايا أورام، بينما تمر الخلايا الدموية الأخرى بدون احتجاز. على عكس الطرق التقليدية، هذه الرقاقة لا تحتاج لتعليم الخلايا بالأجسام المضادة قبل الدخول للنظام، ويمكنها بدقة عالية التقاط الخلايا السرطانية بين مليارات الخلايا الدموية.
مع تزايد الحاجة لمعالجة كميات أكبر من الدم، طور فريق تونر نسخة متقدمة اسمها CTC-iChip9، و CTC-iChip تتضمن عملية متعددة المراحل لعزل الخلايا بدقة وكفاءة عالية. في المرحلة الأولى، ترتب الخلايا عبر قنوات ذكية مستفيدة من قوى القصور الذاتي10 ، وكأن قوانين الفيزياء ترشد مسارها. بعدها، تُزال الخلايا غير المستهدفة مثل كريات الدم البيضاء الموسومة بالأجسام المضادة المغناطيسية عبر مرحلة تسمى "المغناطيفوريسيس11" باستخدام المجال المغناطيسي. ما يتبقى هو خلايا سرطانية حية، معزولة دون وسم مباشر. هذا المزيج الذكي من الفصل الفيزيائي والمغناطيفوريسيس يسمح بعزل سريع ودقيق للخلايا السرطانية من كميات كبيرة من الدم، دون الحاجة لطرق معقدة وبطيئة. هذا التطور زاد من قدرة البشر على الكشف وفتح الطريق لتحليلات أدق وتخصيص علاجات أفضل، أي خطوة نحو طب يرى أكثر ويعالج بدقة أكبر.
الأجيال الجديدة من هذه الرقائق الدقيقة المصغرة لا تقتصر على العزل فقط، بل يمكنها خلق بيئة تحاكي الجسم، حيث تُجرى تجارب مصغرة على الخلايا وتدرس ردود فعلها على الأدوية. أي أنه لن يتم فصل الخلية فحسب لرؤيتها تحت المجهر، بل تُدار حوارات معها. لكل خلية قصة، والتقنيات الحديثة تسمح بقراءة هذه القصص قبل أن تتحول إلى فصول حزينة، مما يتيح تغيير مسارها.
القوافل المهاجمة
في أبحاث لاحقة، اكتشف تونر أن الخلية الوحيدة ليست القصة كلها. أحيانا تتحرك الخلايا السرطانية في مجموعات تعرف بـ"عناقيد خلايا الأورام12"، التي تمتلك قوة غزو أكبر من الخلايا المنفردة. الدراسات بينت أن هذه التجمعات تمنحها جرأة أكبر للاختراق، الهروب من المناعة والسيطرة على مناطق جديدة. في هذه العملية، الصفائح الدموية التي كانت تُعرف بأنها خلايا مناعية ومجلطة، تغطي عناقيد  CTC وتحمي هذه الخلايا من اكتشاف الجهاز المناعي وتساعدها على الفرار. كل شيء يشير إلى أن النقائل ليست حركة فردية. لمطاردة هذه القوافل، ظهرت رقائق مثل Cluster-Chip وPANDA، وهي أدوات ذكية وفريدة تعزل العناقيد كما هي من الدم، بدون مواد كيميائية أو علامات، ودون الإضرار ببنيتها. تصميمها يعتمد على خصائص مثل شكل العناقيد، حجمها، وسرعة تحركها في الدم. استخراج الخلايا المفردة والهيكليات المعقدة دون ضرر يمكّن من تحليل جزيئي دقيق ويعطي فهما لكيفية فرار هذه الخلايا من الجهاز المناعي.
تقدم عالم الطب
حتى الأمس القريب، كان يُعتقد أن الميكروفلوئيديك مجرد صياد لخلايا السرطان. اليوم، هذه التكنولوجيا الدقيقة والذكية تظهر في مجالات جديدة. نفس الرقائق التي ترصد الخلايا السرطانية، باتت قادرة على التعرف على الخلايا الجذعية13، الجسيمات الصغيرة بين الخلوية مثل الحويصلات خارج الخلية14، وحتى الفيروسات. هذه التقنية هي عين فاحصة تخيط على الدم والسوائل الأخرى، تلتقط أدق العلامات. بمساعدة الهياكل النانوية15 التي تتمتع بخواص فريدة نظرا لصغر حجمها، زادت دقة وفعالية هذه الأنظمة. هذه التطورات لا تساعد فقط في علاج الأمراض، بل تفيد في فهم تواصل الخلايا ورسائلها، ويمكنها الكشف المبكر عن المرض قبل ظهور الأعراض. تُختبر هذه الأدوات حاليا في الأبحاث لمتابعة استجابة المناعة أو التشخيص المبكر لبعض الأمراض المعدية، رغم أنها لم تصل بعد للاستخدام السريري الواسع لكنها واعدة. لم يعد علينا انتظار أعراض شديدة أو اللجوء لطرق معقدة ومكلفة. هذه الرقائق الدقيقة والصامتة تزودنا بمعلومات قيمة يمكن أن تغير مسار العلاج من البداية. كما أن نجاحات هذه التقنية لم تقتصر على المختبرات والمستشفيات فقط. في السنوات الأخيرة، دخلت بعض تقنيات فريق تونر المرحلة السريرية وأصبحت اختبارات تشخيصية تجارية تستخدم في العيادات، تساعد الأطباء على مراقبة المرضى بدقة، تقييم فعالية الأدوية بسرعة، وضبط العلاج عند الحاجة. تقدمات الميكروفلوئيديك، خصوصا بفضل جهود باحثين مثل تونر، فتحت الطريق أمام الطب الشخصي؛ طب يدرس الحالة البيولوجية لكل مريض بشكل خاص ويختار له علاج مخصص.
هذه التقنيات الحديثة أظهرت كيف يمكن لأدوات ميكروفلوئيديك الصغيرة أن تُحدث تغييرات كبيرة في حياة الناس. في قطرات الدم، بين الجسيمات غير المرئية وفي بنيات قد لا تراها العين، تأثيرها على حياة البشر واضح وجلي. الباحثون بنوا جسرا بين علم الأحياء والهندسة يشكل مستقبل الطب؛ الطب الذي فيه لكل خلية حكاية تُروى. في عالم يجب أن يكون فيه العلاج خاصا بكل فرد، قد يكون مفتاح الطريق في قراءة هذه القصص الخفية للخلايا التي يمكن أن تغير مصير العلاج وتنقذ الأرواح.