مولود :
1979
الجنسیة:
إيران
الأعمال:
مشروع التجزئة الحساسة للمجاورة المبني على توزيعات p-المستقرة
رحلة عقل فضولي بين البيانات
رحلة وأبحاث عقل كل باحث، هي شبكة من الأسئلة والتجارب والاختبارات التي تشكل مسار العلم. بدأ وهاب ميرركني هذا المسار من دفتر مليء بالتحديات في طفولته، ثم انتقل من صفوف المدرسة ومسابقات الروبوتات إلى الجامعات المرموقة في العالم والمختبرات البحثية الكبيرة. تظهر تجاربه المتعددة أن التقدم العلمي ليس مسارا خطيا، بل هو شبكة من الاكتشافات، الاختبارات والتجارب المتنوعة التي تتشكل دائما في تفاعل مع المشكلات الواقعية للحياة.
مساره العلمي، من صفوف المدرسة إلى الجامعة والبحوث الصناعية، كان دائما مصحوبا بالاكتشافات والتحديات. في صفوف مدرسة المواهب المتفوقة في مدينة كرج، كان يقضي ساعات يتعامل فيها مع أصعب الأسئلة. كانت مسابقات الأولمبياد والتحديات العالمية في RoboCup أول ساحات نمو له؛ حيث تعلم أن الثقة بالنفس والعمل الجماعي هما أساس كل نجاح عظيم. لا يزال يتذكر اليوم الذي فاز فيه فريقهم بالمركز الأول في أوروبا. بالنسبة له، كانت الخبرة العميقة في التعاون والثقة بالنفس أكثر قيمة من الميداليات.
دخوله الجامعة فصل مساره عن التعليم التقليدي، حيث التحق بجامعة صنعتي شريف؛ هناك عمق حبه للخوارزميات من خلال المشاريع ومسابقات البرمجة والروبوتات. هذه التجارب عرفته على حلول مبتكرة للمشكلات المعقدة. أصبح هذا النهج فيما بعد نموذجا ثابتا في أبحاثه: تفكيك المشكلات إلى أجزاء صغيرة، التحليل الدقيق وإعادة تركيبها بأبعاد جديدة. في هذه الجامعة أدرك أنه يجب أن يبني مستقبله في علوم الحاسوب النظرية، وهو اختيار أوصله عام 2005 إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في بوسطن. بين العقول اللامعة، غاص في عالم علوم الحاسوب النظرية؛ بيئة علمته ليس فقط كيف يفكر بعمق أكثر، بل كيف أن العلم يصبح ذا قيمة حين يرتبط بالحياة الواقعية.
الطريق نحو الابتكار في العالم
بعد تخرجه من MIT، عمل في أمازون ومايكروسوفت للأبحاث، حيث كانت تلك بمثابة مختبرات حية له؛ حيث كان عليه تحويل الخوارزميات النظرية إلى حلول يستخدمها ملايين المستخدمين يوميا. لكن وجهته الرئيسية كانت جوجل للأبحاث، حيث قضى أكثر من عقد في مشاريع ضخمة وعلى نطاق واسع. هناك يعمل مع بيانات تصل أحيانا إلى حجم بيانات سكان الأرض كلهم. تذكره هذه التجربة دوما بأن العلم له معنى فقط عندما يستطيع استخراج حلول واقعية من النظرية. يشغل حاليا منصب رئيس فرق الأبحاث الخوارزمية في نيويورك. تمتد مشاريعه من خوارزميات الأسواق والتحسين على نطاق واسع إلى تحليل الرسوم البيانية ومشاريع الذكاء الاصطناعي الحديثة AI مثل Gemini AI . عالم الذكاء الاصطناعي هو دائما مغامرة جديدة له. كل شهر تقدم نماذج وأساليب جديدة تتجاوز حدود الخيال السابقة. ما يدهشه أكثر هو قدرة الأنظمة على التعلم وتحسين ذاتها؛ ظاهرة تجاوزت سرعة التقدم على أي منحنى خطي. يرى في هذا المستقبل الذي كان يُعتقد سابقا أنه يتطلب سنوات طويلة لتوقع حدوثه، بات اليوم يتغير في عضون بضعة أشهر. كما أنه لا يرى في هذا الغموض تهديدا، بل فرصة ثمينة لابتكار أدوات وأفكار تربط حياة الإنسان بالعلم بشكل أعمق.
العلم ثمرة جهد جماعي
ميرركني يؤكد دائما على هذه الملاحظة بأن النجاح الحقيقي لا يحدث إلا إذا تم مشاركته مع الآخرين. يعتقد أن الإنجازات ليست فقط نتيجة جهد فردي، بل نتاج تعاون، ثقة وتفكير مشترك بين فرق البحث. هذه الفلسفة تجلت في مساره العلمي، ونيله لجائزة المصطفى(ص) لعام 2025 كان نتاج إنجازه في مشروع "التجزئة الحساسة للمكان بناء على توزيعات p-المستقرة1، والتي تعد مثالا بارزا على هذه الرؤية. من بين جوائزه الأخرى كان حصوله على أفضل مقالة في مؤتمر ACM للتجارة الإلكترونية عام 2008، اضافة الى فوزه بأفضل مقالة طلابية في سيمبوزيوم ACM-SIAM عام 2005، وميدالية ذهبية في أولمبياد المعلوماتية الإيراني عام 1996. كان للعائلة، الأصدقاء، الزملاء وفرق البحث دور بارز في كل نجاح حققه هذا الباحث، وهذه الإنجازات ثمرة ثقة وتعاون جماعي. لهذا السبب نشر العديد من الخوارزميات ومكتبات البيانات المتعلقة بالشبكات العصبية البيانية وتحليل البيانات كمصادر مفتوحة2 ليتمكن الآخرون من استخدامها ومواصلة مسيرة التقدم العلمي. بالنسبة له، العلم دائما هو نتاج جهد جماعي، ولا يكتمل أي إنجاز بدون مشاركة الآخرين.
حياة تتجاوز الخوارزميات
لا تقتصر حياة ميرركني على المعادلات والخوارزميات فقط. فمنذ شبابه، حيث كان يلعب كرة القدم وتنس الطاولة ويتعلم متعة التعاون والتنافس الودي، وحتى اليوم حيث يقدّر لحظات اللعب البسيطة مع أطفاله، يرى دائما أن التوازن بين العلم، العائلة والمجتمع هو مفتاح النمو الحقيقي. تجربة قضاء الوقت مع الأطفال وتبادل التعلم معهم هي من أسمى لحظات حياته، وتعطيه شعورا بالرضا والسعادة لا يمكن لأي نجاح علمي أن يعوضه.
إلى جانب نشاطاته في جوجل للأبحاث، يعمل ميرركني كأستاذ زائر في جامعة نيويورك بمعهد كورانت، حيث يدرس الخوارزميات واقتصاد الإنترنت، وينبه الجيل الجديد قائلا: «الآن هو أفضل وقت لدخول مجال البحث. سرعة التقدم في الذكاء الاصطناعي تخلق فرصة فريدة لتحويل أحلامكم إلى واقع أسرع من أي وقت مضى؛ لكن لا تنسوا، إذا أُسند كل شيء إلى الذكاء الاصطناعي، فإن عقلكم سيفقد فرصة النمو والتطور». كذلك يرى ميرركني مستقبلا حيث الإنسان والذكاء الاصطناعي يتعاونان لحل المشكلات الرياضية المعقدة، وتحسين الحياة اليومية في مجالات مثل الطب، العلوم الاجتماعية وأكثر من ذلك
تُظهر قصة ميرركني أن الفضول والجهد الفردي حين يرتبطان بالتعاون والابتكار يمكن أن يحركا العالم. جهوده في تطوير الخوارزميات والأساليب العلمية، إلى جانب تأثيرها في تقدم المعرفة، تتيح استخدامها العملي في المشاريع والأبحاث المستقبلية، وتمهد الطريق أمام الأجيال القادمة في مسيرة التطور العلمي.
في بحث عن التشابه
هل سبق أن قرأت كتابا شعرت عند انتهائه وكأنك فقدت صديقا؟ كتابا لم يكن فقط محتواه، بل أجواؤه، ونثره، وشيئا غير مرئي بين سطوره، يتحدث إليك؟ الآن تخيل أنك تبحث عن كتاب آخر يحيي نفس ذلك الإحساس. تدخل مكتبة كبيرة ذات رفوف غير مرتبة. الروايات، الفلسفة، العلوم، التاريخ، كلها موضوعة دون تصنيف محدد على الرفوف. تبدأ بتصفح الكتب على أمل أن تجد شعورا مألوفا. مع مرور الوقت، التعب يرهقك. الكتب كثيرة، وما تبحث عنه لا يمكن إيجاده بسهولة بالعين أو باليد. في النهاية، تجلس خلف أحد حواسيب المكتبة. تكتب وصفا لذلك الكتاب المحبوب، وهنا يتحول هذا الطلب الإنساني إلى مسألة آلية. في عالم الحواسيب، يصبح التحدي أكثر تعقيدا. يجب على محرك البحث أن يبحث بين مليارات الكتب عن كتاب مشابه لما تريد. كيف يمكن للكمبيوتر أن يجد في هذا البحر من البيانات أشياء تشابه بعضها من حيث المعنى أو البنية؟ والأهم من ذلك، كيف يستطيع أن يفعل ذلك بسرعة ودقة دون أن يضطر إلى فحص كل البيانات واحدة واحدة؟ الإجابة تكمن في طريقة تستخدم لغة الأعداد والصيغ بدلا من المشاعر لفهم التشابهات؛ خوارزمية قائمة على توزيعات p-المستقرة، صممها باحثون مثل وهاب ميرركني لكي تتمكن الحواسيب من التعرف على البيانات المشابهة بذكاء وسرعة عالية دون الحاجة لتفتيش كامل الفضاء الرقمي.
التشابه بأسلوب الأعداد
قد يبدو التشابه في النظرة الأولى مفهوما بسيطا؛ لكن عندما ندخل عالم البيانات، يأخذ هذا المفهوم شكلا أكثر دقة واختلافا. بالنسبة للحواسيب، كل شيء، مجرد تسلسل من الأعداد. الصورة هي قائمة من الأعداد التي تمثل البكسلات، وحتى الصوت المسجل هو تقلبات ترددات بأرقام متتابعة. عندما نخطو إلى عالم كل شيء فيه أعداد، يجب أن يُعرّف التشابه بناء على هذه الأعداد. في هذا السياق، إذا أردنا معرفة مدى تشابه شيئين، يجب أن نعرف مدى بعدهما عن بعضهما. لأن منطق الآلة يقول: كلما قل البعد بين مجموعتين، قل الاختلاف بينهما. لهذا السبب، يصبح مفهوم البعد هو أداتنا الأساسية لقياس التشابه. لكن قياس هذا البعد هو مسألة مهمة بحد ذاتها، إذ توجد طرق مختلفة لحسابه. لقياس القرب يستخدم أسلوب يُعرف باسم معيار LPnorm . هذه الطريقة لها صيغة عامة، وباختلاف الرقم المسمى p تتغير زاوية نظرنا لمفهوم البُعد. مثلا، تخيل أنك رسمت نقطتين على ورقة وتريد قياس المسافة بينهما. إذا وضعت المسطرة بحيث ترسم خطا مستقيما بينهما، فهذا يعني أنك قمت بقياس أقصر مسافة ممكنة. هذا هو الحال عندما تكون p = 2، ويسمى في الرياضيات "المسافة الإقليدية". الآن تخيل أنه للوصول من نقطة إلى أخرى، يمكنك فقط التحرك عموديا وأفقيا. هنا المسافة بين النقطتين تحسب بجمع حركاتك في المسارين الأفقي والعمودي. هذا هو حين تكون p = 1، وتسمى "مسافة منهاتن". الرقم p يحدد أي نوع من الاختلافات بين البيانات يعطي النظام اهتماما أكبر.
المسطرة الحاسوبية
الآن ندخل مفهوم البُعد إلى العالم الرقمي، حيث لم تعد البيانات صورا أو أصواتا أو جملا، بل أصبحت متجهات من الأعداد. كما ذكر سابقا، لقياس التشابه بين صورتين أو نصين في الحاسوب، يُقاس البُعد بين المتجهات. مثلا، عندما يحتاج محرك بحث لتحديد ما إذا كان تعبيران يشيران إلى نفس الموضوع، أو عندما يقترح برنامج موسيقي أغان مشابهة، ما يحدث في الخلفية هو مقارنة المتجهات. حسب الهدف، سواء كان دقة عالية أو سرعة أكبر، يمكن اختيار قيم مختلفة للـ p . إذا أردنا الانتباه للتفاصيل الدقيقة، تكون p=1 خيارا جيدا، لأن كل الاختلافات تُحسب بنفس الوزن. أما إذا أردنا رؤية أشمل، فإن p=2 أكثر ملاءمة، لأنها تسمح للحاسوب بتقدير البُعد بسرعة أكبر. المهم أن لأي قيمة p ≥ 1، تكون مسافة LP معيارا صالحا وتحفظ خصائص رياضية مثل متساوية المثلث1، أما إذا كانت p < 1، فيمكن كتابة نفس الصيغة لكنها لن تكون معيارا حقيقيا ولن تحافظ على متساوية المثلث، لذلك يستخدم هذا في النظريات أو تطبيقات خاصة. في علوم البيانات وتعلم الآلة، عادة ما يُستخدم p ≥ 1 لأنه أبسط من الناحية المفاهيمية وله خصائص رياضية مفيدة. مع ذلك، أتاح البحث الابتكاري مثل أبحاث وهاب ميرركني استخدام p < 1 بفعالية، مما يجعل الحواسيب ترى الفروقات بشكل أفضل وأسرع من أي وقت مضى.
اختصار في مدينة البيانات
مهما كانت الطريقة جيدة لقياس التشابه بين البيانات، يبقى لدينا تحد كبير‘ "عالم البيانات لا نهائي". ملايين الصور، النصوص، الأصوات والفيديوهات مخزنة على الحاسوب، وإذا أردنا إيجاد ملف معين بمقارنة هذه الأمور الواحدة تلو الأخرى، سيحتاج الأمر وقتا طويلا جدا. هنا تدخل خوارزمية ذكية، نتاج جهود أشخاص مثل ميرركني، إلى المشهد. "التجزئة الحساسة للموقع" أو Locality-Sensitive Hashing والمعروفة باختصار (LSH)، هي طريقة لتصنيف البيانات بسرعة. في هذه الخوارزمية، تُجمّع البيانات المشابهة معا بسهولة؛ لكن كيف؟ تستخدم LSH خدعة ذكية، بدلا من مقارنة المتجهات الطويلة مباشرة، تحولها بواسطة دوال تجزئة رياضية خاصة إلى متجهات مختصرة وموجزة تحتفظ بالمعلومات المهمة. يشبه هذا أن نحصل على ملخص ذكي لكتاب، بدلا من قراءة الكتاب كاملا، مع الاحتفاظ بجوهر النص الأصلي. للحفاظ على تقارب المسافة بين المتجهات المختصرة، يستخدم LSH توزيع p-المستقر. هذا التوزيع يوفر لنا متجهات عشوائية من الأعداد، التي بتطبيق عمليات جبرية على المتجه الأصلي تعطي متجها مختصرا للبيانات. الخاصية السحرية لهذا التوزيع هي أن المسافة بين المخرجات تقرب جيدا المسافة بين البيانات الأصلية. أي يمكننا، دون لمس كل البيانات، معرفة أيها أقرب عن طريق متجهات مختصرة. كذلك، حسب نوع المسافة التي نريد قياسها، يُستخدم توزيع p-مستقر معين. مثلا، للمسافة الإقليدية، نختار متجهات عشوائية من توزيع غاوسي2 لأنه مناسب لـ p=2 . ولكل قيمة p توزيعاتها الخاصة. بهذه الطريقة يمكن تصنيف البيانات المتشابهة بسرعة دون البحث المرهق.
في هذه الطريقة الجديدة، لا حاجة لتغيير شكل البيانات تماما أو وضعها في أطر معقدة. هذه البساطة هي التي أدت إلى سرعة مذهلة. في بعض التجارب، كان LSH أسرع بـ 40 مرة من الطرق التقليدية مثل kd-tree، وحتى في ظروف أصعب مثل p أصغر من 1، جعل البحث ممكنا أيضا . الملخص الذكي جعل هذه الطريقة مساعدا خبيرا في التعرف على الاختلافات. في عالم الأعداد والمتجهات، قد لا يكون هناك شعور، لكن التشابه يمكن التعرف عليه بسرعة مضاعفة.
مولود :
1957
الجنسیة:
الهند
الأعمال:
الخلايا الشمسية البروسكايتية
قصة عقل شمسي
رحلة لربط العلم من تراب الهند إلى سماء الطاقات الجديدة
في الهند، حيث الطب والهندسة حلم مشترك لكثير من الأطفال، بدأ فتى في صفوف المرحلة الابتدائية بمدينة حيدر آباد يرسم بهدوء مسارا مختلفا في ذهنه. كان يرى أن الطب رغم قيمته، إلا أن تأثيره يقتصر على نطاق صغير. وهذا الدافع من أجل النمو والتقدم دفعه لتغيير اختياره وتحويل الكيمياء إلى طريق حياته الجديد؛ قرار بدا للبعض صغيرا، لكنه أصبح أساسا لمستقبل مختلف له. هذه هي قصة محمد خواجه نذيرالدين؛ رواية عن اختيارات متتابعة ومسار حيث فيه كل اختيار جديد شكل فصلا جديدا من حياته.
المعادلات الأولى في الحياة
ولد محمد خواجه نذيرالدين عام 1957 في الهند، وقضى طفولته في تومبور. كان يبلغ من العمر خمس سنوات فقط عندما فقد والده، وواجهت أسرته صعوبات جديدة. في ذلك الوقت، تولى أخوه مسؤولية دعمه، بالإضافة إلى تشجيع وحب معلمه الذي حفزه على الاستمرار في التعليم. بدأت مسيرة نذيرالدين العلمية في الجامعة العثمانية بحيدر آباد، حيث اختار دراسة مزيج الكيمياء وعلم الأحياء لمرحلة البكالوريوس. رغم أن الدراسة في العلوم الأساسية تعني فهم أسس الكون، إلا أنها كانت بالنسبة له بداية رحلة قادته لاحقا إلى تكنولوجيا الخلايا الشمسية.
بعد التخرج، شارك نذيرالدين في امتحانات القبول للدراسات العليا، وتمكن من الحصول على قبول في تخصصين: الوراثة والكيمياء. رغم اهتمامه بالوراثة، لم تكن تحظى بشعبية كبيرة في الهند آنذاك، فاختار الكيمياء. بعد إكمال بكالوريوس في 1978 وماجستير في 1980، توجه نحو الكيمياء غير العضوية، وهو فرع يدرس خصائص وتفاعلات العناصر والمركبات غير الهيدروكربونية. في عام 1986، أنهى درجة الدكتوراه تحت إشراف الدكتور تقي خان في نفس الجامعة العثمانية، وكانت هذه نقطة تحول كبيرة أدخلته رسميا في عالم البحث العلمي. في تلك السنوات، عمل نذيرالدين أيضا كباحث مشارك في المعهد المركزي لأبحاث الملح والمواد الكيميائية البحرية في بهاونجر، وبدأ أولى خطواته المهنية في مجال الأبحاث التطبيقية.
اختيارات مصيرية
في عام 1985، أصبح نذيرالدين محاضرا في كلية الهندسة وتقنية ديكان1 بالجامعة العثمانية. سرعان ما أدرك أن البقاء في نفس المكان لن يلبي عطشه للتقدم. بتشجيع من الدكتور تقي خان، توجه للسعي للحصول على منحة دراسية. كان همه الرئيسي إيجاد طرق لإنتاج الأمونياك بتكلفة ودرجة حرارة أقل، وهو أمر بالغ الأهمية للزراعة في الهند. بناء على هذه الفكرة، شارك في مقابلة في دلهي، وبعد الحصول على المنحة، أرسل طلباته إلى جامعات مختلفة حول العالم. استجاب ثلاثة أساتذة بارزون هم بيل جيبسون(Bill Gibson) من جامعة إمبريال (Imperial) بلندن، وكوتون (Cotton) من جامعة تكساس في أمريكا، ومايكل جراتزل (Michael Gratzel) من EPFL في سويسرا، وأبدوا رغبتهم في التعاون معه. أخيرا اختار طريق جراتزل لأنه رأى في صغر سنه مجالا للجرأة في الأفكار وبيئة أفضل للنمو. هكذا توجه لإجراء فترة ما بعد الدكتوراه في EPFL.
في مجموعة مايكل جراتزل (Michael Gratzel)، كان موضوعا البحث الرئيسيان هما الطاقات المتجددة والكاتاليز، مما حول تركيز نذيرالدين إلى الطاقات المتجددة. بدأ كطالب ما بعد الدكتوراه، واستمر في عدة مناصب بعدها. في 2009، عمل أستاذا كاملا لمدة خمس سنوات في كلية الكيمياء والمواد المتقدمة في الجامعة الكورية2، ومن 2012 حتى 2022 كان أستاذا كاملا في قسم الهندسة الجزيئية للمواد التطبيقية في EPFL . كانت هذه السنوات مرحلة محورية في تركيزه على التكنولوجيا التي تشكل اليوم محور عمله: الخلايا الشمسية بيروفسكيت3.
ركز على بيروفسكيت كمادة ناشئة في خلايا الطاقة الشمسية، وقد ساهم هذا التركيز في تغيير النظرة العالمية للطاقة الشمسية. هذه المادة البلورية كانت معروفة منذ أوائل القرن العشرين، لكنها جذبت اهتماما خاصا في السنوات الأخيرة بسبب خصائصها الاستثنائية في تحويل الطاقة الشمسية. تعد خلايا بيروفسكيت الشمسية الجيل الجديد من تقنيات الطاقة النظيفة، حيث تجمع بين كفاءة عالية، تكلفة إنتاج منخفضة، وسهولة التصنيع. يعد تركيز محمد نذيرالدين على هذه التكنولوجيا جزءا مهما من الجهود الرامية لتطوير مصادر الطاقة المتجددة.
بصمة في الإحصاءات والاعتراف العالمي
حتى الآن، نشر محمد نذيرالدين أكثر من 980 مقالة محكمة في مجلات مرموقة، وله 10 فصول في كتاب و103 براءات اختراع باسمه. تشمل براءات اختراعه الرئيسية ألوان N3 وN790، وطريقة الترسيب على مرحلتين لصناعة خلايا بيروفسكيت الشمسية، واستخدام طلاء خاص لمنع تسرب الرصاص في هذه الخلايا؛ وهي ابتكارات ساهمت بشكل كبير في تقدم تقنيات الطاقة الشمسية. استُشهد بأبحاثه أكثر من 194 ألف مرة، وبلغ مؤشر h الخاص به 197، وهو مقياس يضعه ضمن العلماء الأكثر استشهادا على مستوى العالم.
منذ 2014 وحتى 2024، كان دائما ضمن قائمة الباحثين الأكثر استشهادا من ISI، ودُعي أكثر من 450 مرة لإلقاء محاضرات في مؤتمرات دولية. لم تقتصر تعاوناته على الأوساط الأكاديمية فقط، بل شملت شركات صناعية كبرى مثل Panasonic، NEC، TOYOTA-AISIN، TOYOTA-Europe Motors، Solaronix و ABENGOA، وقد دعمت أبحاثه ماديا. أهمية أعماله جعلت تامسون ورویترز تدرجه في عام 2015 ضمن 19 عقلا علميا مؤثرا عالميا. إضافة إلى ذلك، نذيرالدين هو عضو في الجمعية الأوروبية للكيمياء، والأكاديمية الأوروبية للعلوم، والجمعية الملكية للكيمياء في بريطانيا، وأكاديمية علوم تيلانجانا؛ وهي مواقع تعكس نطاق تفاعلاته العلمية الدولية. كما يمتلك خبرة في عضوية لجان التحكيم والتحرير في عدة مجلات علمية مرموقة، مما يبرز مكانته في مراجعة وتوجيه الأبحاث ضمن تخصصاته.
شهادة على سعيه
على مدار حياته المهنية، حصل محمد نذيرالدين على مجموعة من الجوائز العلمية. فقد نال حتى الآن ما لا يقل عن 20 جائزة وطنية ودولية، كل منها تأكيد على إسهاماته في تطوير علوم الطاقات المتجددة، وتصنيع المجمعات المعدنية، وخاصة خلايا بيروفسكيت الشمسية. يعتقد أن هذه الجوائز جاءت نتيجة جهوده في هندسة تركيبات بيروفسكيت، وتحسين الواجهات، وتطوير طبقات نقل الشحنات؛ وهي ابتكارات أدت إلى تحقيق أعلى كفاءات في هذه التكنولوجيا وأعادت تشكيل النظرة لمستقبل الطاقة النظيفة.
من بين هذه الجوائز، تبرز بعض الجوائز الهامة، مثل جائزة خوارزمي الدولية في العلوم الأساسية عام 2021. وفي عام 2025، تم اختياره ضمن المرشحين لنيل جائزة المصطفى (ص). كما حصل على منح وجوائز متعددة في دول مثل الهند، اليابان، البرازيل، وسويسرا. كل تقدير من هذه التقديرات يعكس تأثيره اليوم في مجال يواجه أحد أكثر تحديات البشرية حيوية: تطوير الطاقة المستدامة من أجل مستقبل أكثر خضرة.
اكتنفت مسيرة محمد نذيرالدين سلسلة من الاختيارات والتجارب.
اختار عبر مراحل حياته تخصصات وأساليب مختلفة، وفتح كل قرار أمامه طريقا جديدا. من شكوكه في الجامعة العثمانية بين الوراثة والكيمياء، إلى قرار السفر إلى سويسرا والعمل مع مايكل جراتزل (Michael Gratzel) ، ثم التركيز على الطاقات المتجددة وخلايا بيروفسكيت الشمسية، كان كل فصل حلقة في سلسلة شكلت سجله المهني. بعيدا عن الأرقام والجوائز، تمثل حياته نموذجا للربط بين العلم والتطبيقات اليومية. تظهر قصته أن البحث العلمي ليس نقطة نهاية، بل رحلة مستمرة، ما زالت تستمر وستفتح أمامه فصولا جديدة للكتابة.
ثورة الخلايا الشمسية البروسكايتية
حلم الكهرباء اللامحدود
لقد مررنا جميعا مرات عديدة بحالات انقطاع التيار الكهربائي؛ لحظات تتوقف فيها أجهزة التبريد عن العمل، وتنطفئ المصابيح، ويحل الصمت والظلام. ظروف تحرمنا حتى من أبسط حاجاتنا اليومية. هذه التجارب المتكررة التي أصبحت في الآونة الأخيرة أمرا شائعا، تذكرنا بعمق اعتمادنا على الكهرباء وأهمية الحصول على الطاقة. هذا الاعتماد مستمر رغم أن الجزء الأكبر من طاقة الكهرباء لا يزال يُنتج بحرق الوقود الأحفوري؛ مصادر ليست فقط محدودة ومهددة بالنفاد، بل أيضا تسبب أضرارا بيئية واسعة النطاق عبر إنتاج الغازات الدفيئة وتلوث الهواء وتفاقم أزمة المناخ. أزمات تهدد صحة الإنسان ومستقبل الكوكب.
ردا على هذه المشاكل، برزت الطاقات المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية، كبديل مستدام ونظيف. الطاقة الشمسية هي من أنظف وأكثر البدائل المتاحة التي نُظرت إليها لعقود، لكن التقنيات التقليدية للوصول إليها واجهت مشاكل مثل التكلفة العالية، تعقيد الإنتاج، وكفاءة محدودة. في هذه الظروف، ظهرت خلايا الطاقة الشمسية البروسكايتية كجيل جديد من تقنيات الطاقة الشمسية، مما بعث آمالا جديدة. هذه الخلايا التي تتميز بتكلفة أقل وكفاءة أعلى، استطاعت تحدي قيود التقنيات السابقة وجذبت الأنظار إليها.
في هذا الإطار، كان للباحثين أمثال محمد نذير الدين دور في تطوير هذه التقنية الناشئة، والتي تبشر بالحصول على طاقة نظيفة ومستدامة ومتاحة للجميع.
اللبنة القديمة لبنية الخلية الشمسية
عندما نتحدث عن الألواح الشمسية، فإننا في الحقيقة نتحدث عن وحدات صغيرة تسمى خلايا شمسية؛ خلايا ترتب جنبا إلى جنب لتمتص ضوء الشمس وتحوله إلى كهرباء. في الجيل الأول من هذه التقنية، كانت الخلايا مصنوعة من مادة تسمى السيليكون. في هذا التركيب، تتكون الخلية الشمسية من نوعين من السيليكون تختلف خصائصهما. النوع الأول أو ما يعرف بـ (n-type) يحتوي على شوائب الفوسفور التي تضيف إلكترونات زائدة، بينما النوع الثاني أو (p-type) يضاف إليه عناصر مثل البورون، مما يسبب نقصا في الإلكترونات فيه.
في السيليكون من النوع p، بسبب نقص الإلكترونات، تتشكل أماكن فارغة تدعى بالثقوب، التي تسعى لأن تُملأ. عندما يوضع هذان النوعان معا، تنتقل الإلكترونات من الجانب n إلى الجانب p لتملأ الثقوب. عندما تكتمل هذه العملية، يتشكل بينهما منطقة تسمى منطقة التفريغ بسبب فرق الشحنة الناتج بين نوعي السيليكون. هذه المنطقة، تحت تأثير مجال كهربائي داخلي، في هذا الوقت تمنع مرور الإلكترونات بحرية من هذا المسار المختصر بين n-type و p-type ، وتعمل كحارس يمنع إعادة اتحاد الإلكترونات مع الثقوب، مما يخلق مسارا جديدا لتدفق الإلكترونات.
إذا قامت طاقة فوتونات الضوء بفصل إلكترون من جزيء السيليكون، يساعد هذا في دفع الإلكترون والثقب باتجاه مسارات معاكسة، ويتولد تيار كهربائي. الإلكترونات الحرة تتحرك إلى الدائرة الخارجية، وبعد مرورها تعود إلى الخلية وتتحد مع الثقوب، وهذه الحركة المستمرة تشكل التيار الكهربائي المستمد من ضوء الشمس.
بطل اسمه البروسكايت
لطالما كانت الخلايا السيليكونية أساس الألواح الشمسية؛ ولكن رغم نجاحاتها العديدة، واجهت قيوداً مثل انخفاض الكفاءة، التكاليف العالية، تعقيد التصنيع، واستخدام مواد نادرة في الطبيعة. هذه القيود فتحت الباب لدخول تقنيات جديدة، فظهر جيل جديد من الخلايا الشمسية يسمى خلايا البروسكايت.
مصطلح "بروسكايت" يشير في الأصل إلى نوع خاص من البنية البلورية ذات الصيغة العامة ABX₃ ، حيث يكون A غالبا كاتيون عضوي مثل الميثيلأمونيوم، و B فلز مثل الرصاص، وX هالوجين مثل اليود. بالرغم من أن آلية عمل هذه الخلايا مشابهة للنوع السيليكوني، إلا أن مكوناتها بفضل بنية بلورية منظمة ومرونة كيميائية تستطيع امتصاص الضوء جيدا ونقل الشحنات الكهربائية بكفاءة.
تحت مظلة الإضافات
رغم أن البروسكايت يبشر بالخير، إلا أن استقراره يقل عند التعرض للرطوبة والحرارة، وهذه واحدة من العقبات الرئيسية لتجاريته على نطاق واسع. هنا يظهر جهد محمد نذير الدين. للتغلب على هذا التحدي، تم دراسة أساليب مختلفة منها دمج البنى ثنائية وثلاثية الأبعاد، والتي تعزز مقاومة الرطوبة وتزيد من استقرار الأداء على المدى الطويل.
في خلايا البروسكايت، تمتد الشبكة البلورية في ثلاثة أبعاد مكونة هيكلا ثلاثي الأبعاد. في الأسلوب المذكور، بإضافة مجموعات فلوريدية مثل فلورو-فينيل إيثيل آمين وبنتافلورو-بنزيل آمين إلى الطبقة السطحية، يتم تحويل هذه الطبقة إلى هيكل ثنائي الأبعاد. هذا الهيكل يصبح كريها للماء ويعمل كدرع يمنع تحلل الجزء الأساسي من الخلية.
في دراسة أخرى، تم تقديم مركبات مثل ألكيل فوسفونيك أسيد ω-أمونيوم كلوريد1 التي تعمل كجسور جزيئية تربط حواف بلورات البروسكايت، مما ينتج هيكلا أكثر تماسكا ومتانة. هذا التعديل السطحي سمح للخلية بالحفاظ على أكثر من 80% من كفاءتها الأصلية بعد أسبوع في رطوبة 55%، في حين أن العينات التي تفتقر إلى هذه الطبقة فقدت كفاءتها بسرعة.
أيضا، أظهرت الأبحاث أن إضافة مزدوجة؛ دوبانت مثل ميثيلأمونيوم كلوريد (لتعديل الخصائص الكهربائية) ومادة مضافة مثل 1و3-بيس-سيانوميثيل-إيميدازوليوم كلوريد (لتحسين جودة البلورات والكيمياء)، أدت إلى تشكيل طبقة متجانسة ومستقرة من البروسكايت. هذا التعاون ساهم بشكل فعال في تقليل العيوب وزيادة الأداء. من ناحية أخرى، ساعد استخدام إضافات الفوسفونيك أسيد على تحسين تماسك وتنظيم بلورات البروسكايت.
هذه التحسينات لم ترفع الكفاءة فقط من حوالي 9% إلى أكثر من 16%، بل حسنت بشكل كبير استقرار أداء الخلايا تحت رطوبة نسبية عالية.
الإلكترونات في مصيدة الطاقة
في سبيل زيادة الكفاءة والاستقرار في خلايا البروسكايت، أصبح من الضروري فهم أدق لسلوك الإلكترونات ومستويات الطاقة في الطبقات المختلفة. كما ذكر سابقا، تتكون الخلية الشمسية من عدة طبقات لكل منها دور مختلف في تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء. أهم هذه الطبقات هي الطبقة الفعالة حيث يتم امتصاص الضوء وفصل الإلكترونات لتوليد التيار.
كل مادة في هذا الهيكل لها مستويات طاقة محددة لإلكتروناتها. إذا لم تتطابق مستويات الطاقة بين الطبقات مثل الطبقة الممتصة وطبقات نقل الشحن، فإن الإلكترونات تفقد الطاقة أو تُحبس. من العوامل التي تسبب هذا الحبس وجود "مصائد الطاقة"، وهي نقاط في بنية المادة تسبب احتجاز الإلكترونات بسبب عيوب أو اختلالات في البلورات، مما يعيق حركتها في الدائرة الكهربائية.
هذه الظاهرة تقلل التيار، تهدر الطاقة وتخفض الكفاءة. لمواجهة ذلك، تم تقديم حلول متعددة، منها استخدام بلازما غير حرارية لاختراق بنية البروسكايت مما أدى إلى تعطيل مصائد الطاقة وتحسين توازن مستويات الطاقة.
أيضا، أجريت محاولات لتحسين التركيب الكيميائي للطبقة الفعالة؛ منها عمل فريق محمد نذير الدين الذي أضاف كمية محكمة من يوديد الرصاص (PbI₂) إلى طبقة البروسكايت، مما ساعد في تشكيل بلورات أكثر انتظاما وتجانسا، بعيوب أقل وكفاءة أعلى.
نتيجة هذه التعديلات تم الحصول على خلايا بكفاءة تزيد عن 20% بحيث حافظت على جزء كبير من أدائها حتى بعد تعرضها لظروف بيئية حقيقية. هذه الإنجازات أظهرت أن الوصول إلى التكوين الأمثل يتطلب فهما عميقا وهندسة دقيقة لسلوك الشحنات الكهربائية.
بلورات متجانسة مع هاجس بيئي
استمرارا في تحسين عمليات التصنيع، ركز نذير الدين على تطوير طرق بناء خلايا البروسكايت. من التحديات في تصنيع هذه الخلايا هو تكوين طبقة متجانسة وعالية الجودة من مادة الامتصاص الضوئي، وهو أمر كان يواجه مشاكل في الأساليب الأولية مثل الترسيب ذات المرحلة الواحدة بسبب نمو غير منتظم للبلورات.
محمد نذير الدين وزملاؤه قدموا طريقة جديدة تسمى "الترسيب المرحلي2" للتقدم نحو الأمام في هذا الأمر، وهي عملية من مرحلتين: أولا يتم تشكيل طبقة من يوديد الرصاص، ثم التحول إلى بروسكايت بواسطة التعرض لمحلول هاليد عضوي. هذه الطريقة تسمح بتحكم أفضل في نمو البلورات، وزيادة التجانس وتحسين الكفاءة النهائية للخلية.
الخلية المصنوعة بهذه الطريقة حافظت على 80% من أدائها بعد 500 ساعة من التشغيل. لكن التقدم في الأداء هو جانب واحد فقط؛ فالحفاظ على البيئة أصبح أيضا هما أساسيا في تطوير خلايا البروسكايت.
من القضايا المثيرة للقلق استخدام الرصاص في هذه الخلايا؛ وهو معدن ثقيل وسام له دور رئيسي في رفع الكفاءة لكنه يثير مخاوف بيئية كبيرة. للرد على هذا التحدي، بحث العلماء استخدام تراكيب قليلة من الرصاص أو خالية منه، وفي بعض الحالات تم اقتراح استبدال الرصاص بالقصدير. رغم أن البدائل لا تقدم كفاءة مساوية لتراكيب الرصاص، لكنها خطوة مهمة لتحقيق التوازن بين الأداء العالي والمسؤولية البيئية.
كذلك تمكن فريق نذيرالدين في النهاية من وقف تسرب الرصاص باستخدام غطاء خاص على هذه الخلايا.
في المجمل، خلايا الطاقة الشمسية البروسكايتية تمثل ابتكارا اجتماعيا يمكّن من توفير كهرباء رخيصة وموثوقة في المناطق المحرومة، مع تقليل الاعتماد العالمي على الوقود الأحفوري، وتعزيز العدالة في الطاقة.
هذه الإنجازات التي تمتد على مدار 12 عاما، فتحت المجال لتطوير هذا الجيل الجديد من الخلايا الشمسية ذات القدرات العملية والتجارية، ومهدت الطريق لتحقيق أنظمة طاقة مستدامة ومتاحة.
كما يقول نذير الدين:
"لقد قطعنا شوطا طويلا. انتقلنا من كفاءة أقل من 10% إلى 26% وهي نسبة مؤكدة رسميا ومعلنة في الأبحاث. هذا تقدم هائل. كما أحرزنا تقدما ملحوظا في الاستقرار، والآن يمكن القول إن هذه الخلايا مستقرة وجاهزة لدخول السوق. لكن سيستغرق الأمر عدة سنوات أخرى للوصول إلى الاستخدام الواسع. عندما يحدث ذلك، ستتمكن معظم الدول النامية والمتقدمة بسهولة من تبنيها، لأنها من الناحية التقنية تعتبر منتجا منخفض التقنية."
مولود :
1958
الجنسیة:
تركيا
الأعمال:
تطوير أنظمة النانو/ميكروفلويديك ذات التطبيقات السريرية: فصل الخلايا النادرة
الحياة في مسار الخلايا النادرة
في كل مختبر علمي، هناك نقطة لا تكفي فيها العين البشرية وحدها، وللكشف عن الأسرار الخفية يجب النظر بدقة وعمق أكبر. في تلك النقطة، يوجد باحثون، قادرون بشغفهم ودقتهم على رؤية ما تخفيه عيون الآخرين. أحد هؤلاء الباحثين هو مهمت تونر، والآن سنتناول قصة حياته؛ رحلته بدأت من فضولته المبكرة في إسطنبول ووصلت به إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ومستشفى ماساتشوستس العام. نشأة حبه للعلم خلال سنوات دراسته في الهندسة الميكانيكية، حينما كانت قضاياه تتجاوز عالم الأدوات والمسننات، وكانت تشغل ذهنه. بعد ذلك، تعرّف على أساتذة جدد لديهم نظرة مختلفة نحو طرح الأسئلة وحل المشكلات، مما شكل نقطة تحول في حياته ومهد له طريق البحوث الدقيقة المجهرية والهندسة الطبية.
بذرة الفضول
ولد مهمت تونر عام 1958 في حي صغير من إسطنبول. لم تكن سنوات طفولته مرتبطة كثيرا بالاهتمام بالدراسة، بل كان قلبه متعلقا أكثر بكرة القدم والتنس، وكان يستغل كل فرصة لممارسة التزلج، رياضة لم تكن متاحة بسهولة له. بالرغم من أن شغفه بالرياضة كان أقوى من الكتاب والدراسة، إلا أن بذرة التعلم والمسائل العلمية قد غُرست في بيته. وفقا له قاله، كانت عائلته دائما مولعة بالتعلم، وكان لوالديه أثر كبير في تحفيزه على الدراسة والمعرفة. في تلك الأيام في تركيا، لم تكن هناك جامعات خاصة، وكانت التعليمات العليا مجانية، ما منح تونر فرصة الحصول على تعليم مجاني وعالي الجودة في إسطنبول. هذه البنية الأسرية والاجتماعية كانت الأساس في التغيير الذي قاده لاحقا من عالم الرياضة إلى عالم العلم.
البحث عن طريق نحو الطب
على الرغم من رغبة مهمت تونر في أن يصبح جراحا أو طبيبا، لم يحصل على الدرجات اللازمة في نظام القبول الجامعي المركزي في تركيا، فسجل في قسم الهندسة الميكانيكية في جامعة إسطنبول التقنية. هناك التقى بالبروفيسور إستر1 والبروفيسور رمضان كيليتش2، اللذين عمقا نظرته للعلم. عرفاه على فكرة أن العلم يعني السير إلى أماكن لم يسبق لأحد أن زارها من قبل، وعلماه متعة الاكتشاف. تونر الذي كان قبل الجامعة يعاني من ضعف الاهتمام بالدراسة، أصبح في تلك السنوات عاشقا حقيقيا للدراسة. وحسبما قال، تحول من طالب عادي إلى واحد من أفضل الطلاب في الجامعة، وكانت تلك الحماسة الجديدة هي التي مهدت له طريق الهجرة إلى الولايات المتحدة. تقدم للعديد من الجامعات وفي النهاية التحق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، حيث كانت هندسة الطب الحيوي قد بدأت للتو. كانت هذه التخصص بالنسبة له فرصة مثالية، إذ أنه بدمج الهندسة مع المجال الصحي، كان بإمكانه الاقتراب من حلمه الأول في لعب دور في مجال الطب.
عندما وصل مهمت تونر إلى MIT، كان لا يزال مهندسا ميكانيكيا. في أيامه الأولى، تحدث مع العديد من الأساتذة لتشكيل مستقبله. في ذلك الوقت، لم يكن تخصص الهندسة الطبية الحيوية يحظى بجدية كبيرة. رغم البرود الذي صنعته هذه النظرة، اختار تونر طريقه. أراد أن يفعل شيئا جديدا وله تأثير مباشر على الطب. تحدث مع أساتذة متعددين، تعلم أكثر، وفي النهاية قرر متابعة مسار الهندسة الطبية الحيوية. كان حبه للصحة هو الذي جعله ثابتا أمام كل الشكوك والإحباطات وجعله متأكدا من اختياره.
أيادي الهداية
بدأ تونر دراسته للدكتوراه تحت إشراف الأستاذ إرنست كرافاهو3، أحد أوائل العلماء في مجال علم الأحياء البارد4 في MIT . كان موضوع أطروحته حول نظرية تكوّن الجليد داخل الخلايا؛ بحث جعله لأول مرة يُذكر اسمه في المجتمع العلمي، ولاحقا كان الأساس لأعماله في مجال حماية الأحياء. استمر تعاونه مع كرافاهو لخمس سنوات، هذه السنوات لم تبن له أساسا علميا قويا فحسب، بل قادته إلى صداقة عميقة استمرت حتى وفاة أستاذه. ربطت هذه الأبحاث نظرته إلى تطبيقات الهندسة في الطب، لا سيما في علم الديناميكا الحرارية. بعد أساتذته في مرحلة البكالوريوس، كان كرافاهو هو الشخص الثالث الذي غير مسار حياته. بعد ذلك، قادته التعاونات مع البروفيسور مارتن يارموش5 والبروفيسور رونالد تامكينز6 إلى مستشفى ماساتشوستس العام وكلية الطب في جامعة هارفارد.
منذ أوائل الألفينات، بدأ تركيز تونر يتجه نحو تقنية تدفق السوائل الدقيقة (الميكروفلويديك)، وهي تقنية تحاكي حركة الجزيئات في قنوات مجهرية. استخدمت هذه التقنية لدراسة الخلايا النادرة مثل الخلايا الجذعية والجنينية، وخاصة خلايا السرطان المتداولة في الدم. أدرك أن لهذا المجال مستقبلا مصيريا، لأنه بفصل الخلايا النادرة، يمكن مراقبة وتشخيص أمراض مثل السرطان في وقت مبكر واختيار الدواء المناسب للمريض.
الأفكار لا تعيش وحدها
رحلة الفكرة لتحولها إلى منتج هي رحلة معقدة. يبدأ كل شيء بفكرة، ثم يجب مراجعتها من وجهات نظر مختلفة حتى تصل إلى مرحلة الابتكار؛ حيث يتضح الدور الاجتماعي لها وإمكانية تحويلها إلى منتج. بعد ذلك تبدأ الصعوبة الحقيقية، وهي الانتقال من الاختراع إلى الإنتاج الكمي. يجب أن يعمل المنتج بجودة عالية دائما، ويجتاز الاختبارات السريرية واللوائح التنظيمية، ويصمد أمام المنافسة، ويُنتج على نطاق عالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه العملية مكلفة وتستغرق أكثر من عقد من الزمن.
تونر، الذي لم يكن يهتم كثيرا بتسجيل براءات الاختراع في سنواته الأولى، أدرك عبر تحذير أستاذه رافائيل لي أن أي فكرة لا تتحول إلى منتج حقيقي بدون دعم قانوني. اليوم، لديه أكثر من مئة براءة اختراع، معظمها في مجال تقنية تدفق السوائل الدقيقة. بعض هذه البراءات مخصصة لصناعة شرائح ميكروفلويديك لتحديد وتحليل الخلايا النادرة، والتي تُستخدم الآن في مجالات واسعة منها صحة الدماغ، تجديد الأنسجة، والمجالات العصبية-والأوعية.
انعكاس الجهود
بعد سنوات من الجهد والبحث، حصل مهمت تونر على عدة جوائز وتكريمات علمية. من بين قائمة طويلة من جوائزه، يمكن الإشارة إلى جائزة المجموعة العلمية AACR عام 2010. منحت هذه الجائزة من قبل مجموعة أبحاث السرطان7 والقفص الصدري في مركز سرطان دانافاربر تقديرا لإظهار علاقة طفرات EGFR بالاستجابة العلاجية للأدوية gefitinib و erlotinib، بالإضافة إلى اكتشاف آليتين جديدتين لمقاومة الدواء. بالإضافة إلى ذلك، في سنوات سابقة، صنفته مجلة Popular Mechanics ضمن الفائزين بجائزةBreakthrough Award.
في السنوات الأخيرة، تم إدراجه ضمن قائمة الفائزين بجائزة المصطفى(ص) للعلوم والتكنولوجيا لعام 2025، نظرا لتطويره أجهزة نانو/ميكروفلويديك بتطبيقات سريرية لفصل الخلايا النادرة.
بهذه الإنجازات، استطاع تونر أن يحدث نقطة تحول في الربط بين الهندسة والطب، وفتحت أبحاثه طريقا جديدا لتشخيص الأمراض وعلاجها.
مع مرور السنوات، يواصل تونر دربه البحثي، حيث يمكن لكل اكتشاف صغير أن يثير أسئلة أكبر. وبعد أكثر من أربعة عقود من النشاط العلمي والتدريس الجامعي، ركز جهوده على دعم الشباب، وتسجيل براءات الاختراع، وتوفير بيئة لتسويق الأفكار، ومناقشة القضايا الأخلاقية للتقنيات الجديدة. اهتماماته اليومية مثل الرياضة والفنون البصرية ودراسة تغير المناخ ما زالت مرتبطة بأبحاثه، وجزءا من مسيرته في الحدود الغامضة للطب الحيوي.
يؤمن تونر بأن الفشل والتحديات موجودة دائما، والمهم هو القدرة على تحليل الوضع، ووضع الاستراتيجيات، والتركيز على المستقبل بدلا من النظر إلى الماضي. يقول إن الفضول يجب أن يُعزز، ويجب التقليل من التنظيم والتعقيد الزائد، لمنح الشباب حرية العمل، حتى تتحقق التقدمات بسرعة أكبر مما كانت عليه في السابق.
القنوات المصغرة، إنجازات عظيمة
رحلة خفية على الطريق السريع للحياة
الجسد هو نسيج منسوج من مليارات الخلايا؛ خلايا مرتبة كحبات منتظمة، واحدة تلو الأخرى حسب الإرادة. في هذا السياق، يسير كل شيء على ما يرام إلى أن تتأخر حبة واحدة، وهذه الحبة إذا لم تكتشف في الوقت المناسب، قد تفكك النسيج كله. تبدأ قصتنا من خلية واحدة، هي تلك الحبة المتأخرة. خلية صغيرة تخرج عن النظام، وتتجاهل قوانين الجسد في صمت. في البداية، قد تكون مجرد بقعة غير محسوسة في ركن ما، ولكن إذا لم تُكتشف هذه الخلية العصية في الوقت المناسب، فإن تكاثرها غير المنضبط وغير المتناسق مع الجسم يؤسس لما نسميه السرطان1 . هذه الخلية تتصرف بانتهازية ولا تكتفي بمنطقتها المحدودة. مع مرور الوقت، يركب بعضها تيار الدم ليبدأ رحلة تهدف إلى توسيع نطاقها؛ وهذه الظاهرة تعرف بالانبثاث (النقائل)2.
الدم هو الطريق السريع الذي يحمل ملايين الركاب. كريات الدم البيضاء والحمراء، الصفائح الدموية وغيرها، كلها مكونات هذا السائل الأحمر الذي لا يتوقف عن خدمة الحياة. في هذه الزحمة، تعتبر خلايا السرطان القليلة من المسافرين غير المرغوب فيهم، الذين يهربون من الكشف عن طريق الجهاز المناعي بخططهم الخبيثة. الكشف عن مثل هذه الخلايا بين هذه الحشود ليس بالأمر السهل؛ وهنا يظهر دور العلم.
مراسلو المستقبل في أعماق الدم
أهمية التعرف على خلايا السرطان المتداولة (CTCs)3 والتي توجد خصوصا في الدم، لا تقتصر على التشخيص المبكر للمرض فقط. هذه الخلايا المتجولة تتحدث عن المستقبل، عن مدى عدوانية المرض، احتمالية عودته، وطريقة استجابة الجسم للعلاج. هذه الميزة جعلتها أداة ثمينة لاتخاذ قرارات علاجية. على سبيل المثال، في مرضى سرطان البروستات المتقدم، يمكن للتحليل الجيني لهذه الخلايا التنبؤ بنوع العلاج الذي سيستجيب له المريض بشكل أفضل. أحد الجينات المناسبة للدراسة هو جين AR4. جين AR في الحالة الطبيعية يؤدي إلى إنتاج mRNA يصنع في النهاية بروتين مستقبل الأندروجين في خلايا البروستات. هذا المستقبل هو بروتين داخل خلوي/نوي ينشط بعد ارتباطه بهرمونات مثل التستوستيرون ويعطي إشارة للخلايا بالتكاثر، لكن في حالة السرطان، الأمور تختلف. في بعض هذه الخلايا، يُقصّ mRNA الناتج عن جين AR بشكل غير طبيعي وينتج نوعا متغيرا يدعى AR-V7 . هذه النسخة تصنع مستقبلا ينشط حتى بدون وجود التستوستيرون ويصدر أمر التكاثر بشكل مستمر. إذا تم التعرف على AR-V7 في الخلايا السرطانية المنفصلة من المريض، يمكن التنبؤ بأن المريض قد لا يستجيب لبعض العلاجات. المعلومات من هذه الاختبارات تساعد الأطباء على تخصيص العلاجات بناء على الخصائص الجينية لكل مريض بدقة أكبر، وتجنب إهدار الوقت والتكاليف.
التشخيص بثمن
في الظروف الحرجة، يجب على الأطباء تقييم حالة المريض بأقصى سرعة وأعلى دقة. كذلك يسعى الباحثون للكشف المستهدف عن هذه الخلايا السرطانية قبل أي انتشار. في حين أن الأدوات التقليدية لم تكن دائما كافية. من الطرق الشائعة كانت استخدام الأجسام المضادة5 ، والأجسام المضادة هي جزيئات تلتصق بمستقبلات خاصة على سطح الخلايا السرطانية وتوسمها. على هذا الأساس، صممت أنظمة مثل CellSearch والتي كانت لفترة طويلة تعتبر المعيار الذهبي6. في هذه الطريقة، تُربط الأجسام المضادة بجزيئات مغناطيسية دقيقة. إذا كانت هناك خلايا سرطانية في عينة الدم، تلتصق هذه الأجسام المضادة بمستقبلات محددة على هذه الخلايا وتضع عليها علامة. بهذه الطريقة، تصبح الخلايا المعنية ذات خاصية مغناطيسية. بعد ذلك تدخل العينة إلى جهاز به مجال مغناطيسي مضبوط في الجدار، يجذب الخلايا الموسومة مثل مغناطيس موجه. تُغسل الخلايا الدموية الأخرى وتزال. لكن هذه العملية تواجه مشاكل كثيرة، منها اختلاف مستقبلات الخلايا السرطانية، إذ قد تتغير الخلايا عند دخولها الدم فتقل أو تختفي مستقبلاتها. ونظرا لاعتماد هذه الأنظمة الكلية على وجود هذه المستقبلات، تبقى هذه الخلايا المتغيرة غير مرئية للنظام. حاولت طرق أخرى كالفلاتر الميكانيكية الاستفادة من اختلاف الحجم والصلابة، لكنها غالبا ما تعاني من انسداد الفلتر وإلحاق الضرر بالخلايا. الخلل المشترك لهذه الطرق أنها إما تعتمد بشكل مفرط على المعلومات البيولوجية أو تقوم بالعزل على حساب تلف بنية الخلايا. هذه العيوب فتحت الطريق لجيل جديد من الأدوات.
صيادو السرطان المحترفون
في عالم الطب الحيوي، ثورة عميقة تحدث. إذا كان التشخيص يعتمد سابقا على ملاحظة الأعراض أو أخذ عينات جراحية، فإن اليوم هناك أفق جديد يتشكل، يسمى "الخزعة السائلة7" الذي يحاول بدلا من القطع والأخذ، كشف أسرار الجسم عبر كمية بسيطة من الدم. هذه التكنولوجيا تصطاد الخلايا والجزيئات النادرة القادمة من الأورام، الأنسجة الملتهبة أو حتى الجهاز المناعي إلى مجرى الدم. في قلب هذه التطورات، حازت الرقائق الدقيقة المصغرة8 (الميكروفلوئيديك) على مكانة خاصة. هذه الرقائق أدوات صغيرة يمكنها تمرير سوائل مثل الدم عبر قنوات رفيعة بحجم شعرة، وتقوم بعزل وتحليل مكوناتها. من أمثلة تطبيق هذه التكنولوجيا تصميم مجموعة مهام تونر في أوائل الألفينيات. حيث صنعوا رقاقة باسم CTC-Chip التي أحدثت تحولا في الكشف عن الخلايا السرطانية المتجولة. مغطاة من الداخل بأجسام مضادة خاصة، تلتقط الرقاقة عند مرور الدم الخلايا التي تحمل مستقبلاتها، والتي هي غالبا خلايا أورام، بينما تمر الخلايا الدموية الأخرى بدون احتجاز. على عكس الطرق التقليدية، هذه الرقاقة لا تحتاج لتعليم الخلايا بالأجسام المضادة قبل الدخول للنظام، ويمكنها بدقة عالية التقاط الخلايا السرطانية بين مليارات الخلايا الدموية.
مع تزايد الحاجة لمعالجة كميات أكبر من الدم، طور فريق تونر نسخة متقدمة اسمها CTC-iChip9، و CTC-iChip تتضمن عملية متعددة المراحل لعزل الخلايا بدقة وكفاءة عالية. في المرحلة الأولى، ترتب الخلايا عبر قنوات ذكية مستفيدة من قوى القصور الذاتي10 ، وكأن قوانين الفيزياء ترشد مسارها. بعدها، تُزال الخلايا غير المستهدفة مثل كريات الدم البيضاء الموسومة بالأجسام المضادة المغناطيسية عبر مرحلة تسمى "المغناطيفوريسيس11" باستخدام المجال المغناطيسي. ما يتبقى هو خلايا سرطانية حية، معزولة دون وسم مباشر. هذا المزيج الذكي من الفصل الفيزيائي والمغناطيفوريسيس يسمح بعزل سريع ودقيق للخلايا السرطانية من كميات كبيرة من الدم، دون الحاجة لطرق معقدة وبطيئة. هذا التطور زاد من قدرة البشر على الكشف وفتح الطريق لتحليلات أدق وتخصيص علاجات أفضل، أي خطوة نحو طب يرى أكثر ويعالج بدقة أكبر.
الأجيال الجديدة من هذه الرقائق الدقيقة المصغرة لا تقتصر على العزل فقط، بل يمكنها خلق بيئة تحاكي الجسم، حيث تُجرى تجارب مصغرة على الخلايا وتدرس ردود فعلها على الأدوية. أي أنه لن يتم فصل الخلية فحسب لرؤيتها تحت المجهر، بل تُدار حوارات معها. لكل خلية قصة، والتقنيات الحديثة تسمح بقراءة هذه القصص قبل أن تتحول إلى فصول حزينة، مما يتيح تغيير مسارها.
القوافل المهاجمة
في أبحاث لاحقة، اكتشف تونر أن الخلية الوحيدة ليست القصة كلها. أحيانا تتحرك الخلايا السرطانية في مجموعات تعرف بـ"عناقيد خلايا الأورام12"، التي تمتلك قوة غزو أكبر من الخلايا المنفردة. الدراسات بينت أن هذه التجمعات تمنحها جرأة أكبر للاختراق، الهروب من المناعة والسيطرة على مناطق جديدة. في هذه العملية، الصفائح الدموية التي كانت تُعرف بأنها خلايا مناعية ومجلطة، تغطي عناقيد CTC وتحمي هذه الخلايا من اكتشاف الجهاز المناعي وتساعدها على الفرار. كل شيء يشير إلى أن النقائل ليست حركة فردية. لمطاردة هذه القوافل، ظهرت رقائق مثل Cluster-Chip وPANDA، وهي أدوات ذكية وفريدة تعزل العناقيد كما هي من الدم، بدون مواد كيميائية أو علامات، ودون الإضرار ببنيتها. تصميمها يعتمد على خصائص مثل شكل العناقيد، حجمها، وسرعة تحركها في الدم. استخراج الخلايا المفردة والهيكليات المعقدة دون ضرر يمكّن من تحليل جزيئي دقيق ويعطي فهما لكيفية فرار هذه الخلايا من الجهاز المناعي.
تقدم عالم الطب
حتى الأمس القريب، كان يُعتقد أن الميكروفلوئيديك مجرد صياد لخلايا السرطان. اليوم، هذه التكنولوجيا الدقيقة والذكية تظهر في مجالات جديدة. نفس الرقائق التي ترصد الخلايا السرطانية، باتت قادرة على التعرف على الخلايا الجذعية13، الجسيمات الصغيرة بين الخلوية مثل الحويصلات خارج الخلية14، وحتى الفيروسات. هذه التقنية هي عين فاحصة تخيط على الدم والسوائل الأخرى، تلتقط أدق العلامات. بمساعدة الهياكل النانوية15 التي تتمتع بخواص فريدة نظرا لصغر حجمها، زادت دقة وفعالية هذه الأنظمة. هذه التطورات لا تساعد فقط في علاج الأمراض، بل تفيد في فهم تواصل الخلايا ورسائلها، ويمكنها الكشف المبكر عن المرض قبل ظهور الأعراض. تُختبر هذه الأدوات حاليا في الأبحاث لمتابعة استجابة المناعة أو التشخيص المبكر لبعض الأمراض المعدية، رغم أنها لم تصل بعد للاستخدام السريري الواسع لكنها واعدة. لم يعد علينا انتظار أعراض شديدة أو اللجوء لطرق معقدة ومكلفة. هذه الرقائق الدقيقة والصامتة تزودنا بمعلومات قيمة يمكن أن تغير مسار العلاج من البداية. كما أن نجاحات هذه التقنية لم تقتصر على المختبرات والمستشفيات فقط. في السنوات الأخيرة، دخلت بعض تقنيات فريق تونر المرحلة السريرية وأصبحت اختبارات تشخيصية تجارية تستخدم في العيادات، تساعد الأطباء على مراقبة المرضى بدقة، تقييم فعالية الأدوية بسرعة، وضبط العلاج عند الحاجة. تقدمات الميكروفلوئيديك، خصوصا بفضل جهود باحثين مثل تونر، فتحت الطريق أمام الطب الشخصي؛ طب يدرس الحالة البيولوجية لكل مريض بشكل خاص ويختار له علاج مخصص.
هذه التقنيات الحديثة أظهرت كيف يمكن لأدوات ميكروفلوئيديك الصغيرة أن تُحدث تغييرات كبيرة في حياة الناس. في قطرات الدم، بين الجسيمات غير المرئية وفي بنيات قد لا تراها العين، تأثيرها على حياة البشر واضح وجلي. الباحثون بنوا جسرا بين علم الأحياء والهندسة يشكل مستقبل الطب؛ الطب الذي فيه لكل خلية حكاية تُروى. في عالم يجب أن يكون فيه العلاج خاصا بكل فرد، قد يكون مفتاح الطريق في قراءة هذه القصص الخفية للخلايا التي يمكن أن تغير مصير العلاج وتنقذ الأرواح.